00
ذلك كان الطبيب في الماضي ... طبيبًا، فيلسوفاً، وفلكيّاً، يجمع في شخصه علومًا شتّى. لكن بعد ألف عام، تغيّر المشهد؛ صار من النادر أن تجد طبيباً يُحيط حتى بجميع تفاصيل اختصاصه، إذ قَسّمت العلوم الحديثة الطب إلى تخصصات دقيقة، فغدا التركيز على الجزئيات أولى من التوسّع في آفاق أخرى في التخصص ذاته، فما بالك عن دراسة علوم مغايرة كالفلسفة أو الفلك.
في حلقة من U Podcast أشار الدكتور سهر أبو ليل مع الدكتور علي جليل إلى هذه المعضلة ... لماذا اختفى "الطبيب الفيلسوف" من عالمنا؟ ناقشا بعض الأسباب المحتملة في الحلقة، لكننا هنا سنحاول التعمّق أكثر في تحليل هذه الظاهرة، والبحث عن جذورها بين الماضي والحاضر.
إن تحدثنا في التاريخ، نجد أن قلّة تشعّب العلوم جعلتها مترابطة فيما بينها ترابطاً طبيعياً؛ فكان الطبيب إذا أراد دراسة بدن الإنسان لا بد أن يطرق أبواب الفلسفة لفهم وجوده، وإذا غاص في الفلسفة وجد نفسه متصلا بعلم الفلك وما وراء الطبيعة. والمنهجية التعليمية آنذاك كانت تجمع هذه الحقول كلها في مجلس واحد أو أكاديمية واحدة، على خلاف حاضرنا حيث لكل تخصّص دقيق عالَمه المنغلق.
وهذا ما يفسّر قلة عدد الأطباء ذوي الاهتمامات المتعددة اليوم؛ فالطريق الأكاديمي الحديث يجبرهم على اختيار تخصّصات دقيقة، وهي بدورها متشعّبة بما يكفي لتستهلك العمر كلّه. يضاف إلى ذلك عامل الإلهاء والتشتت الذهني الذي أشار إليه الدكتور علي جليل في حلقة U Podcast؛ فإذا كان ابن سينا يستيقظ على كتب الفلسفة، فنحن اليوم نستيقظ على Reels جديدة.
ومع ذلك، لا يعني هذا أن "الطبيب الفيلسوف" قد اندثر إلى الأبد؛ فما زال بيننا نماذج مميزة تحمل روحه باسلوب عصري. الدكتور سهر أبو ليل مثال محلي بارز؛ جمع بين الطب والفن والفلسفة، يبدأ يومه مع مرضاه ومع آخر تطورات تقنيات طب الأسنان، وينهيه بين تفاصيل الخط العربي وفلسفته العميقة.
إن التخصّصات الدقيقة واقع لا مهرب منه، لكن هجران الفلسفة والفن والاهتمامات الأخرى ليس له عذر مقنع. بل لعلّ الجمع بين العمق التخصّصي وسعة الأفق الإنساني هو ما يمنح الطبيب - والإنسان عمومًا - معنى حقيقي لحياته ولسبب وجوده.

